كارثة اجتياح أسراب الجراد للحقول الزراعية ظاهرة لطالما ذاقت البشرية ويلاتها منذ أقدم العصور، والقرآن الكريم يخبرنا كيف سلط الله الجراد على قوم فرعون، وبينما كان الجميع يظن أن جحافل الجراد أوشكت أن تصبح شيئًا من التاريخ ولم يعد لها وجود، إذا بها تطل برأسها مرة أخرى لتعيث فسادًا في دول القرن الأفريقي، وتتلف الكثير من المحاصيل والمزروعات.
على مدار عدة شهور، اجتاحت المليارات من أسراب الجراد كينيا وأوغندا وأتت على الأخضر واليابس وأتلفت الكثير من المحاصيل وأفقدت الكثيرين مصدر رزقهم فيما يصنف بأسوأ غزو للجراد منذ عام 1942. يتدفق الجراد على منطقة الخليج سنويًا بين شهري يناير وأبريل، وقد أدى ظهوره في مناطق متفرقة في قطر إلى زيادة المخاوف من اجتياح هذه الأسراب للمزارع خلال شهور الشتاء التي مرت بسلام ولم تتضرر منطقة الخليج بسوء.
تكشف الوثائق التاريخية للمكتبة البريطانية - المتاحة الآن للاطلاع الكامل عبر مكتبة قطر الرقمية - أن أسراب ضخمة من الجراد اجتاحت منطقة الخليج في عام 1942 عندما كانت الحرب العالمية الثانية في عامها الثالث، وكانت قوات الحلفاء حينها تخوض حربًا ضروس ضد قوات المحور في شمال أفريقيا. وتروي هذه السجلات كيف شهدت المنطقة في بداية ذلك العام غزوًا كبيرًا من الجراد على نطاق هائل حتى أن الحلفاء كانوا يخشون أن يتسبب ذلك في نقص حاد في إمدادات الغذاء الأمر الذي أوشك أن يجعلهم يخسرون الحرب في منطقة الشرق الأوسط.
لمواجهة هذا الحادث، أنشأت بريطانيا وحدة الشرق الأوسط لمكافحة الجراد للقضاء على وباء الجراد واستئصاله. وسجلت الوثائق التاريخية المتاحة للاطلاع عبر مكتبة قطر الرقمية الإنجازات التي حققتها هذه الوحدة خلال فترة الحرب وما بعدها، بما في ذلك نجاحها في حشد درجة من التعاون الدولي المطلوب للقضاء على أسراب الجراد في معركة لم يكن بوسع الحلفاء تحمل خسارتها أو الهزيمة فيها.
يقول الدكتور جيمس أونلي، مدير شؤون البحوث التاريخية والشراكات في مكتبة قطر الوطنية: "لقد اعتبرت قوات الحلفاء حملتهم ضد غزو الجراد في المرتبة الثانية من الأهمية بعد العمليات العسكرية ضد قوات العدو، وشنت وحدة الشرق الأوسط لمكافحة الجراد سلسلة من العمليات العسكرية السنوية للعثور على أراضي تكاثر الجراد في شبه الجزيرة العربية واستئصالها. وكانت هذه العمليات ناجحة للغاية حتى أنها شكلت مساهمة حاسمة ساعدت في كسب الحرب في منطقة الشرق الأوسط، وكان ذلك الفوز في المعركة ضد الجراد فصلًا جديدًا في قصة صراع الإنسان مع الطبيعة".
وأضاف جيمس أونلي قائلًا: "لقد غيرت مكتبة قطر الرقمية نهج العلماء والباحثين في دراسة تاريخ شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج، وأصبحت المرجع الأول بلا منازع في البحث عن أي معلومات تاريخية حول قطر والمنطقة، إذ تتيح لهم في ثوان الحصول على معلومات ووثائق كان الوصول إليها والاطلاع عليها يستغرق منهم أسابيع وشهور بل وسنوات. لقد سهلت مكتبة قطر الرقمية باعتبارها نافذة كاشفة على الماضي الاطلاع على وقائع وأحداث التاريخ أكثر من ذي قبل، الأمر الذي أدى إلى طفرة هائلة في عدد الأطروحات والدراسات والأوراق البحثية الجديدة حول تاريخ منطقة الخليج، تلك المنطقة لطالما كانت أقل المناطق في العالم العربي حظًا من الدراسات والبحوث".
ضمت وحدة الشرق الأوسط لمكافحة الجراد المئات من أفراد الجيش البريطاني والمدنيين البريطانيين والعرب، وبينما ارتدى الضباط الغترة البيضاء مع عقال ذهبي، كان الآخرون يرتدون الشماغ المخطط بالأبيض والأحمر وعقالًا أسود. وضمت الوحدة عدة فرق من المركبات جابت مناطق شاسعة من الأراضي في شبه الجزيرة العربية، كانت تصل إلى 65 كيلومتر في اليوم تبحث فيها عن أراضي تكاثر الجراد وترش المبيدات السامة عليها. وكانت هذه الفرق من المركبات تضاهي مجموعة الصحراء البعيدة المدى الشهيرة التابعة لقوات الحلفاء التي كانت تقوم بمهامها خلف خطوط العدو في شمال أفريقيا، ودعمت مهام الوحدة في مكافحة الجراد طائرات النقل والرش التابعة للقوات الجوية الملكية والقوات الجوية الأمريكية بالإضافة إلى شبكة هائلة من الاستخبارات لجمع التقارير والمعلومات حول أماكن مشاهدة أسراب الجراد.
ولكن ليس كل أفراد وحدة الشرق الأوسط لمكافحة الجراد كانوا يستخدمون المركبات في التنقل، فأشهر عضو في الوحدة وهو المستكشف الإنجليزي وكاتب يوميات السفر والرحلات الشهير ويلفريد ثيسيجر الذي كان مسؤول البحث عن الجراد في الوحدة، عبر منطقة الربع الخالي في عام 1946 على ظهر جمل مع فرقة بدوية صغيرة لجمع المعلومات حول أراضي تكاثر الجراد. وكانت الرحلة طويلة ومرهقة ونصرًا حاسمًا للإنسان على الطبيعة. ونشر بذلك وصفًا لرحلته في كتاب "فوق الرمال العربية" الذي نشر في عام 1959، وهو من الروائع الكلاسيكية لأدب السفر والرحلات وقصة من أعظم القصص التي كتبت على الإطلاق حول صراع الإنسان مع سطوة الصحراء.
وبفضل الجهود الناجحة لوحدة الشرق الأوسط لمكافحة الجراد، لم تشهد المنطقة أي تفشي لأسراب الجراد في بقية سنوات الحرب، ولم تتأثر إمدادات الغذاء الحيوية، الأمر الذي مكّن الحلفاء من هزيمة قوات المحور في الشرق الأوسط. هذه القصة المذهلة والمجهولة لدى الكثيرين ما هي إلا مثال من آلاف القصص والحكايات والوقائع التي تنتظر استكشافها في مكتبة قطر الرقمية: www.qdl.qa/en/archive/81055/vdc_100000000193.0x0000d3.
تحتوي مكتبة قطر الرقمية على أكثر من 1.9 مليون صفحة رقمية من المعلومات والوثائق والمخطوطات التاريخية، مما يجعلها أكبر مستودع رقمي في العالم مخصص لتاريخ الشرق الأوسط فقط. ويتيح موقع المكتبة إمكانية الاطلاع المجاني والإلكتروني على ثروة من المعلومات عن تاريخ الخليج والعلوم العربية والإسلامية. لمعرفة المزيد عن معركة الجراد، يمكنك الاطلاع على هذا المقال: https://www.qdl.qa/ar/locusts