لطالما عرف البشر سرد القصص والحكايات منذ أقدم العصور، فالقصص كانت ولا تزال من الركائز الأساسية في جميع الحضارات التي أقامها الإنسان على الأرض، إذ أنها مثل العادات والتقاليد تتغير وتتشكل بالتفاعل والتأثير المتبادل. فالحكايات تربط بخيوطها ونسيجها المتنوع بين ثقافات الأمم، إذ تستلهم كل أمة من هذا النسيج ما يوافق ظروفها وتقاليدها وثقافتها وقيمها، حتى يُسفر هذا التفاعل عن قصص فريدة، تعكس شخصية الثقافات التي انبثقت منها.
ويصحب معرض "حكايات عربية وألمانية"، الذي يفتح أبوابه للجمهور في مكتبة قطر الوطنية، عضو مؤسسة قطر، يوم 17 أبريل، زوّاره في رحلة شيقة عبر أروقة الثقافة والتاريخ، ويرصد كيف نشأت أشهر الحكايات في الثقافتين العربية والجرمانية (والغربية عمومًا) من بوتقة وجذور مشتركة، وكيف نبتت فروعها وأوراقها الخاصة لتعكس ظروف المجتمعات التي تحتضنها وتعبر عنها.
ويُسلط المعرض، وهو مشروع مشترك بين مكتبة قطر الوطنية، ومجموعة المتحف المصري وورق البردي في متحف الدولة في برلين، وأكاديمية الشباب العربي - الألماني للعلوم والإنسانيات، الضوء على مجموعة منتقاة من ورق البردي القديم، والمخطوطات النادرة والكتب المطبوعة والصور والرسومات وغيرها من المواد التاريخية من مجموعة المتحف المصري وورق البردي، ومكتبة الدولة في برلين، ومن مقتنيات المكتبة التراثية في مكتبة قطر الوطنية، بالإضافة إلى مواد أخرى مستعارة من جهات ألمانية أخرى.
تقول الدكتورة سهير وسطاوي، المدير التنفيذي لمكتبة قطر الوطنية: "يمزج هذا المعرض بين التقاليد العريقة لسرد القصص والحكايات في عدد من الثقافات المتباينة جغرافيًا ما بين أوروبا الغربية وشمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية والهند وفارس. ويكشف لنا المعرض الجوانب المختلفة لأنماط التفاعل والتأثير المتبادل بين الشعوب والأمم، وهو تفاعل لم يقتصر على السفر والتجارة، بل امتد إلى الأدب والتراث من خلال اقتباس القصص والحكايات وانتقالها من مكان لآخر".
ويركز المعرض على أبرز القصص والحكايات التي تعكس امتزاج القصص وتماهيها بثقافة الشعوب التي تنتقل إليها، سواء في العالم العربي أو في الغرب الأوروبي. وفي حكايات "ألف ليلة وليلة"، نجد أنفسنا أمام إطار سردي كلاسيكي تحكي شهرزداد من خلاله قصة جديدة ليلة بعد أخرى لكي تتجنب القتل في الصباح، وكانت حكاياتها توليفة من التراث الهندي والفارسي والعراقي والسوري والمصري. وظهرت هذه الحكايات باللغة العربية في بغداد قبل القرن التاسع الميلادي، بعد ترجمتها من الفارسية، مع استخدام أماكن وأسماء عربية بدلًا من الفارسية.
تقول البروفيسور فيرينا ليبر، منسقة المعرض ومنسقة مجموعة أوراق البردي والمخطوطات المصرية والشرقية في في متحف برلين: "من كان يعلم أن فيلاً قد مشى في شوارع مدينة "آخن" عام 806 ميلادية خلال عصر الإمبراطورية الكارولينجية التي حكمت أوروبا في العصور الوسطى؟ هذا الفيل أُحضر من بغداد كهدية دبلوماسية بعث بها الخليفة العباسي هارون الرشيد إلى كارل الكبير "شرلمان"، مؤسس أوروبا. حدث ذلك خلال قرن قبل ظهور قصص "ألف ليلة وليلة"، التي تُرجمت إلى اللغات الأوروبية، وكان لها تأثير حاسم في إلهام "الأخوين غريم" لكتابة قصصهما وحكاياتهما الشهيرة، وذلك أحد الأمثلة العديدة للتأثير الدولي الواسع التي حازته حكايات ألف ليلة وليلة".
بعد هذه النسخة المبكرة، ظهرت عدة إصدارات من "ألف ليلة وليلة"، وتطورت عبر القرون، خاصة في سوريا ومصر. ومن المدهش أن بعضًا من أشهر الحكايات في ألف ليلة وليلة، مثل "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعين حرامي" أضافها المترجم الفرنسي أنطوان جالاند الذي دمج الحكايات السورية في ترجمته الفرنسية لحكايات "ألف ليلة"، التي استولت على لب الأوروبيين واستحوذت على شغفهم، فاقتبسوا منها واستلهموا أشهر الحكايات والقصص الخيالية التي أصبحت جزءًا من تراث الحكايات الأوروبية والعالمية بعد ذلك. وفي المعرض، نجد عدة نسخ وإصدارات من "ألف ليلة وليلة"، تبيّن كيف تطورت هذه الحكايات وعُرِضت بطرق مختلفة على مر العصور واختلاف الأماكن.
يقول ستيفان إيبيغ، مدير إدارة صيانة مواد المكتبة والمحافظة عليها: "تجسّد ألف ليلة وليلة الطرق المختلفة التي تتطور بها الحكايات عبر انتقالها بين الأمم ومن مكان لآخر، إذ نرى الانتقال من التراث الشفهي إلى المكتوب، واختلاف الأماكن والحكايات، والإضافة والحذف، بما يعكس تقاليد الثقافة التي تمتلكها الآن".
ويسلط المعرض الضوء على الحكايات الأخرى التي ألفها الأخوان "جيكوب غريم" و"فيلهيلم غريم". ومثل ألف ليلة وليلة، استمدت حكايات "غريم" الكلاسيكية مثل "سنو وايت وسندريلا" حبكتها من الثقافة المحلية، من إيطاليا وفرنسا وألمانيا، بالإضافة إلى تأثرهما بحكايات ألف ليلة وليلة.
وبعد صدور الطبعة الأولى، اضطر الأخوان غريم لتعديل حكاياتهم لتلائم الأذواق المعاصرة. فقد تلقت الطبعة الأولى الكثير من النقد لما بها من عنف وقسوة، وقاما تدريجيًا بإزالة كل هذه العناصر، تمامًا كما فعل ديزني عندما حولها لأفلام. ويُبرز المعرض نماذج للتحولات التي طرأت على حكايات وقصص غريم حتى استقرت بشكلها المعروف في الوقت الحالي.
يضيف ستيفان إيبيغ قائلاً: "أهم انطباع سيخرج به زائرو هذا المعرض هو مدى التشابه والتقارب بين هذه الحكايات، بغض النظر عن جنسيتها أو نشأتها. فسرد القصص والحكايات عبارة عن نسيج مشترك يربط بين الشعوب عبر العصور والحقب التاريخية المختلفة. وكما يوضح هذا المعرض، يحتوي وعاء الذاكرة الإنسانية على العديد من القصص والحكايات التي روتها مختلف الشعوب والأمم".
ويتطرق المعرض أيضًا إلى بعض من أوائل الحكايات المسجلة في التاريخ، وهي الحكايات والأشعار المكتوبة على أوراق البردي في الحضارة المصرية القديمة. ويُبرز المعرض مخطوطات من العصور الوسطى تحكي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقصة أصحاب الكهف الواردة في القرآن. وتعكس هذه المخطوطات نقاط التلاقي والتقاطع بين ألمانيا والعالم العربي، بما في ذلك أدب الرحلات، وترجمات الحكايات الألمانية إلى اللغة العربية.
يقوم المعرض بإبراز بعض الحكايات والأنماط الحديثة لسرد القصص في قطر وألمانيا التي استلهمت مضمونها من حكايات "ألف ليلة وليلة"، ومن قصص الأخوين "غريم" الخيالية.
وتختم ليبر حديثها قائلة: "من لا يعرف حكاية سندريلا، ومن الذي لا يعرف النسخة الشفهية القطرية من هذه الحكاية؟ من يعرف أن شاعر ألمانيا الأشهر غوته كان يستطيع الكتابة باللغة العربية، وأن أشهر قصائده تأثرت بأدباء عرب؟ هؤلاء هم أقدم الرحالة الذي كانوا بمثابة قنوات تواصل وجسور للتأثير المتبادل بين الثقافتين العربية والألمانية".