لا تكمن أهمية المواد الأرشيفية من الوثائق التاريخية والصور الفوتوغرافية القديمة والمخطوطات النادرة في توثيق الماضي فحسب، بل في كونها تحفظ الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية لأنها تروي حكايات الأفراد والمجتمعات وتسرد قصة الأمم عبر العصور، ولأن الشعوب تستلهم منها رؤيتها للحاضر وتطلعاتها للمستقبل.
تحرص مكتبة قطر الوطنية منذ تأسيسها، انطلاقًا من رؤيتها التي تؤكد على الحفاظ على تراث المنطقة ورسالتها الهادفة إلى الحفاظ على تراث الدولة والمنطقة، على صون وتوثيق تاريخ وثقافة قطر والمنطقة. ولا تدخر المكتبة جهدًا في سبيل ذلك سواءً عن طريق مكتبتها التراثية ومركز الحفظ والصيانة الذي يكرس جهود خبرائه في حماية المواد الأرشيفية والتراثية وحمايتها من التدهور.
لا تقتصر جهود المكتبة على الحفظ المادي للمواد التراثية والأرشيفية، بل تعمل كذلك على حفظها للأجيال القادمة عبر مركز الرقمنة الذي نجح حتى الآن في رقمنة ما يقرب من 15 مليون و500 ألف صفحة تشمل الكتب والمواد الأرشيفية والخرائط والمخطوطات والصور والصحف والمطبوعات وملفات الفيديو. وتتيح المكتبة جميع هذه المواد لاطلاع الجميع في كل أنحاء العالم عبر مستودعها الرقمي في نسخته التجريبية (https://ediscovery.qnl.qa) على موقعها الإلكتروني.
وبهذه المناسبة سلّط خبراء مكتبة قطر الوطنية الضوء على ثلاثة من أشهر المقتنيات التاريخية النادرة في المكتبة وهي: مخطوط قرآني نادر، ورسالة أرشيفية، وصور نادرة التقطها رحالة فرنسي للمنطقة في منتصف القرن التاسع عشر، وجميعها متاح رقميًا لاطلاع الجمهور عبر موقع المكتبة الإلكتروني.
أقدم هذه المقتنيات ورقة من المصحف الأزرق، وهو مخطوط قرآني نادر مكتوب بخط كوفي مذهب على رِق أزرق اللون، وفيه تتجلى الأناقة الخالدة بأبهى صورها. يرجع تاريخ هذا المخطوط إلى مدينة القيروان في تونس حوالي القرن الثالث أو الرابع الهجري (القرن التاسع الميلادي). وتتوزع أوراق هذا المصحف الأزرق الفريد بين متاحف ومكتبات مختلفة حول العالم.
تتضمن أرشيفات المكتبة أيضًا صورًا نادرة وقديمة للشرق الأوسط، وتوثّق لحظات محورية كما تتيح للمهتمين والدارسين فهمًا عميقًا لتاريخ المنطقة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1852، نشر الكاتب والمصوّر الفرنسي ماكسيم دو كو ألبومه التوثيقي من الصور الفوتوغرافية التي التقطها في مصر وبلاد النوبة وفلسطين وسوريا في رحلته بصحبة المستشرق الفرنسي جوستاف فلوبير ليقدم لنا معرفة فريدة ونادرة لملامح العمارة الجغرافيا والشعوب آنذاك.
ولا تقتصر مقتنيات المكتبة الأرشيفية على توثيق تاريخ قطر والمنطقة لقرون بعيدة فحسب، بل تتضمن أيضًا العديد من المواد الأرشيفية من العصر الحديث، من ضمنها رسالة أرشيفية مؤرخة في 17 مارس 1902 توثق تعيين محمد أمين موظفًا إداريًا مساعدًا في قطر. وتفتح لنا الرسالة، التي تحكي رحلة هذا الموظف الإداري عبر بغداد والبصرة ووصوله إلى قطر، نافذة لفهم الحضور العثماني في منطقة الخليج، وتعزز المعرفة بالسرد التاريخي للواقع السياسي في العالم العربي.
مكتبة قطر الرقمية هي أيضًا واحدة من مبادرات المكتبة لإعادة توطين التراث الأرشيفي والوثائقي للمنطقة عبر الرقمنة، وهي واحدة من أكبر المستودعات الرقمية في العالم المخصصة لتاريخ وثقافة الشرق الأوسط، وتوفر لأي شخص إمكانية الاطلاع المجاني عبر الإنترنت على ثروة من المواد التاريخية الأولية حول السياسة والأشخاص والأماكن والتجارة والثقافة والعادات في منطقة الخليج والعالم العربي، وبها ما يقرب من مليوني ونصف مليون نسخة رقمية من المواد الأرشيفية والخرائط والمخطوطات والتسجيلات الصوتية والصور والرسومات المحفوظة أصلَها في أرشيف المكتبة البريطانية، مع تعليقات وشرح باللغتين العربية والإنجليزية.
وقد قطعت المكتبة شوطًا كبيرًا في مجال رقمنة المواد الأرشيفية والحفاظ عليها، ويجسد ذلك اختيار المكتبة من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات لتكون مركزه الإقليمي للحفاظ على المواد التراثية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ثم اختيار المكتبة مكتبًا إقليميًا للاتحاد على مستوى العالم العربي.
وتؤمن مكتبة قطر الوطنية أن الرقمنة ليست فقط وسيلة للحصول على نسخة رقمية احتياطية من المادة التراثية والتاريخية، بل هي وسيلة لنشر المعرفة والوعي بتاريخ المنطقة وماضيها، وإثراء البحوث والدراسات التاريخية حول شعوب وثقافات العالم العربي، فضلًا عن تعزيز الهوية الوطنية لأجيال الحاضر والمستقبل.
حول دور المكتبة في توثيق التراث الأرشيفي للمنطقة، صرح رواد بوملهب، رئيس قسم المخطوطات والأرشيف في إدارة المجموعات المميّزة بالمكتبة، قائلًا: "ستظل مكتبة قطر الوطنية ملتزمة بتوثيق الثقافة الغنية وتراث قطر ودول الخليج في إطار مسؤوليتها عن الحفاظ على تراث الدولة والمنطقة. تعكس أرشيفاتنا هوية مجتمعنا وحضارتنا العربية والإسلامية والقيم التي نؤمن بها، وتربط أجيال الشباب في الوقت الحالي وفي المستقبل بأسلافهم وتعزز شعورهم بالفخر والاعتزاز بماضيهم والانتماء لبلادهم ولغتهم وثقافتهم".
وأضاف: "من خلال إنشاء بنية تحتية للتخزين السحابي فائق السرعة إلى جانب تقنيات الحفظ والصيانة الرائدة التي توظفها المكتبة في حفظ التراث الوثائقي والأرشيفي، تسعى مكتبة قطر الوطنية إلى معالجة الفجوة الكبيرة في ممارسات الحفظ الرقمي في المنطقة لأن عدم قدرتنا على حماية المعرفة اليوم قد يعوق قدرة الأجيال القادمة على الوصول إلى المعلومات ويحول دون معرفتهم بماضي بلادهم وتاريخها".