منطقة الخليج هي واحدة من أقدم نقاط التقاء التجارة العالمية وتبادل الثقافات في العالم. فهي على مستوى الجغرافيا طريق بحري طبيعي سريع بين الشرق الأوسط ومنطقة جنوب شرق آسيا وما بعدها، وعلى مر العصور، اتسمت التجارة والاتصالات بين منطقة الخليج وجنوب شرق آسيا بالبطء واعتمادها على حركة الرياح الموسمية أثناء الملاحة البحرية.
أصبحت الاتصالات اليوم بين الخليج وبقية دول العالم بالطبع تحدث بشكل فوري، ولا تستغرق سوى ثوان معدودات بعد أن كانت تستغرق شهورًا طويلة في الماضي. قد يفترض أغلب الناس أن ثورة الاتصالات الفورية في الخليج لم تحدث سوى في منتصف القرن العشرين مع إدخال الهاتف إلى المنطقة، لكنها في حقيقة الأمر بدأت قبل ذلك بنحو مائة عام مع مد أول خط تلغراف كهربائي في الخليج. والآن بفضل الجهود المثمرة لأخصائيي الأرشفة والمؤرخين الذين يعملون في مكتبة قطر الرقمية، بدأت الوثائق تسلط ضوءًا جديدًا حول هذه الحلقة المفقودة في تاريخ الخليج.
لأكثر من 2000 عام عرفت البشرية الاتصالات بعيدة المدى بصور مختلفة وأشكال متعددة مثل المنارة والطبول والأعلام، ومع بداية العصر الفكتوري في عام 1837 أُرسلت أول برقية كهربائية تجارية في بريطانيا. واستمرت التحسينات في التكنولوجيا حتى أصبحت راسخة الأقدام في خمسينيات القرن التاسع عشر ، وفي الستينيات من القرن نفسه، سعت بريطانيا لبناء خط تلغراف تجاري ليصل إلى أهم مستعمراتها في العالم ألا وهي الهند البريطانية. وهكذا أصبحت منطقة الخليج واحدة من أهم ممرات الاتصال في الإمبراطورية البريطانية.
تكشف سلسلة من الوثائق التاريخية الموجودة في المكتبة البريطانية والمتاحة حاليًا على مكتبة قطر الرقمية أن مقترح مد خط التلغراف البريطاني عبر الخليج أُثير لأول مرة في مايو 1860، ففي ذلك الشهر، شرح "جون وورتلي دي لا مور"، رجل الأعمال في مجال التلغراف، خططه لتمديد الخطوط الحالية عبر إيران ومنطقة الخليج من خلال إنشاء خط يبدأ من بغداد إلى البصرة ومن البصرة إلى ميناء كاراتشي الذي يقع على الساحل الغربي للهند البريطانية (يقع في باكستان حاليًا).
هذه الخطة الطموحة بيّنها خطاب مرسل إلى السير لويس بيللي، المقيم السياسي في الهند البريطانية في منطقة الخليج. وقد رصدت 61 وثيقة أخرى كيف تم تنفيذ الخطة بين عامي 1862 و1864 من خلال سفن الكابلات التي مدت خط التلغراف تحت الماء بين البصرة وكاراتشي. وإحدى هذه الوثائق احتوت على تفاصيل المفاوضات بين السير لويس بيللي وسلطان مسقط، جناب السيد ثويني بن سعيد البوسعيد، التي أسفرت عن توقيع اتفاقية فريدة مكتوبة بخط اليد باللغتين العربية والإنجليزية في نوفمبر 1864 تجيز تمديد خط التلغراف عبر شبه جزيرة راس مسندم وربما منطقة بندر عباس التي كانت مؤجرة لسلطان مسقط في ذلك الوقت من قبل شاه فارس.
في نوفمبر 1869، وصلت سفينة الكَبلات إلى منطقة الخليج لبدء مد خط التلغراف من مقاطعة جاسِك في شرق فارس إلى بومباي في الهند. وفي خطاب غير مؤرخ منشور على مكتبة قطر الرقمية، أعلن السير لويس بيللي عن إنشاء محطة تلغراف كبيرة في مقاطعة جاسِك. وتحتوي مكتبة قطر الرقمية على صورة فوتوغرافية لهذه المحطة المبهرة تعود لحوالي عام 1870.
ورغم بعض العقبات والانتكاسات، تم إنجاز خط التلغراف الجديد بنجاح باهر، وساعد السكان في بريطانيا والهند البريطانية على التواصل مع بعضهم البعض في غضون أيام بدلًا من شهور، أما سكان الخليج فقد استطاعوا التواصل مع الهند في غضون ساعات بدلَا من أسابيع. ولأن التلغراف كان تجاريًا، فقد استخدمه التجار كذلك مما ساهم في إنعاش حركة التجارة بين الخليج والهند.
يُعلِّق الدكتور جيمس أونلي، مدير شؤون البحوث التاريخية والشراكات في مكتبة قطر الوطنية، على الوثائق الجديدة قائلاً: "سيسعد المستخدمون كثيرًا بما تحتويه مكتبة قطر الرقمية من مواد المكتبة البريطانية التي تتضمن أكبر مجموعة أرشيفية في العالم متخصصة في تاريخ منطقة الخليج. وعند البحث عن كلمة "تلغراف" أو "telegraph" في مكتبة قطر الرقمية يعرض الموقع أكثر من 51 ألف نتيجة في 4562 سجل ووثيقة. وإذا حصرنا نتائج البحث في عقد الستينيات من القرن التاسع عشر، سيصبح لدينا 378 نتيجة في 134 وثيقة. وإذا ركزنا فقط على عام 1862، سنحصل على 101 نتيجة في 35 وثيقة. فمكتبة قطر الرقمية مثل اختراع التلغراف نفسه، توفر على المستخدمين الوقت في الوصول إلى الوثائق المطلوبة، فينجزون في غضون دقائق ما كان يستغرق منهم في السابق شهورًا طويلة. وبالتأكيد يمكن النظر إلى مكتبة قطر الرقمية باعتبارها جزءًا من ثورة الاتصالات نفسها التي بدأت بالتلغراف قبل 160 عامًا. فكما ربط التلغراف بين الناس في الخليج مع بريطانيا والهند، تربط مكتبة قطر الرقمية الناس في كل مكان بالسجلات والوثائق التاريخية حول الخليج الموجودة في المكتبة البريطانية ومستقبلاً في الهند أيضًا".
وأضاف الدكتور أونلي: "تُغيِّر مكتبة قطر الرقمية من أسلوب الباحثين والطلاب في إجراء البحوث حول تاريخ منطقة الخليج. فقد أصبحت هي المرجع البحثي الأول، مما جعلهم في ثوان معدودات يصلون لمخطوطات ووثائق وسجلات كان الوصول إليها يستغرق منهم أسابيع وشهورًا بل ربما سنين. لقد أصبحت وثائق الماضي متاحة الآن بسهولة أكبر من ذي قبل، مما أدى إلى ازدهار الدراسات التاريخية حول منطقة الخليج، وهي المنطقة الأقل بحثًا ودراسة في العالم العربي والشرق الأوسط".
اعرف المزيد حول مد خطوط التلغراف في منطقة الخليج من وثائق مكتبة قطر الرقمية بزيارة هذا الرابط.