عقدت مكتبة قطر الوطنية ومعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (اليونيتار) الأسبوع الماضي منتدى افتراضيًا بعنوان "الدبلوماسية الثقافية ودور المكتبات الوطنية في الدول النامية"بمشاركة دولية رفيعة المستوى شملت قادة حكومات ووزراء خارجية ومفوضين سامين ومستشارين مستقلين للسياسات وأكاديميين لمناقشة أهمية المكتبات الوطنية حول العالم، مع التركيز بوجه خاص على الدول النامية والدبلوماسية الثقافية العالمية.
ترأس المنتدى سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، الذي عبّر في كلمته الافتتاحية عن شعوره العميق بالحزن والصدمة إزاء الانفجار المأساوي الذي شهدته العاصمة اللبنانية بيروت وما ترتب عليه من خسائر بشرية غالية وخسائر مادية ومعنوية هائلة، واصفًا بيروت "بعاصمة مميزة للكتاب والثقافة العربية ليس فقط في الشرق الأوسط وإنما في العالم بأسره"، مشيرًا إلى مكانة بيروت الخاصة في قلب كل عربي ودورها في احتضان أعظم الكتاب والشعراء والفنانين اللبنانيين وإخوتهم من العرب.
وأضاف سعادته قائلًا: "ما تمتعت به لبنان من حرية فكرية جعل منها ملجأ في أحلك الظروف لكل كاتب أو أديب أو مبدع مضطهد، وملاذًا للشعراء والأدباء والكتاب والفنانين. وإن الدوحة التي رفعت شعار "الثقافة العربية وطنًا والدوحة عاصمة" تشارك بيروت أحزانها، وتؤكد ثقتها في استمرار مكانة بيروت الثقافية يدًا بيد مع شقيقتها الدوحة".
كما تحدث سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري في كلمته عن الدبلوماسية الثقافية قائلًا: "لطالما كان مفهوم الدبلوماسية الثقافية رديفًا وداعمًا للدبلوماسية بمعناها التقليدي المعروف من خلال تمثيل الدول ودور السفارات وغير منحصر في تمثيلها الرسمي بل تخطّاها ليتجلّى في أشكال ثقافيّة عديدة تعتبر ترجمانًا لإبداع الثقافات الإنسانيّة سيّما أنّ المجتمعات الإنسانية تتحاور وتتبادل التأثر والتأثير منذ بدء الخليقة. وقد سرّع اختراع الطباعة في نشر قيم التقارب بين الشّعوب التي اكتشفت ثقافات بعضها البعض، ولا ننسى الفضل الأكبر للثّورة الرقميّة التي فتحت عصرًا جديدًا لوسائل التفاعل ونقل المعارف، ونقلته من رمزيّة الجسور إلى افتراضيّة الشبكات". وشدّد سعادته على أن المكتبات الوطنية "يجب ألا تتخلّف قيد أنملة عن مكانتها في تعزيز التفاعل البنّاء بين الأمم وتنمية فرص التعاون والتفاعل لمؤسساتنا التعليمية والجامعية ومراكز أبحاثنا وعلمائنا ومثقفينا".
وأردف سعادته قائلاً: "هناك وسائل أخرى منحت الدبلوماسية الثقافية انتشارًا واسعًا لجماهيريتها مثل الرياضة، وتعتبر قطر رائدة في هذا المجال".
وسلّط سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري الضوء على ما تتمتع به مكتبة قطر الوطنية من مزايا تجعل منها رائدة في هذا المجال وماتحتويه من أهم الأرشيفات الرقمية المخصصة للتاريخ والثقافة الخاصة بمنطقة الخليج وما حولها وقد نتج هذا الأرشيف عن الشراكة المثمرة بين مؤسسة قطر والمكتبة البريطانية ومكتبة قطر الوطنية، وسيُضاف إليه محتوى جديدًا من خلال الشراكات مع مكتبات ومؤسسات عالمية أخرى في بريطانيا والفاتيكان وإيطاليا والولايات المتحدة والهند والأرجنتين وجامبيا، وغيرها. وأضاف سعاته أن للمكتبة مشاريع في الرقمنة والمشاركة في نشر المعارف والكتب مهمة جدًا سيكون لها صداها في منطقتنا وما يتخطى منطقتنا، وسيُعلن عن هذه المشاريع المهمة في أقرب وقت عندما تُستكمل الترتيبات مع شركاء المكتبة.
واختتم سعادته كلمته الافتتاحية قائلًا: "إن مكتبة الأطفال واليافعين بمكتبة قطر الوطنية إحدى الجوانب المنيرة بمحتوياتها وبنشاطها الدؤوب، كما أن للمكفوفين حقهم والاهتمام بهم في مكتبتنا من خلال برامجنا والكتب الخاصّة بلغتهم. وتتمثّل رؤية ورسالة مكتبتنا في أن تكون منبعًا للمعرفة والبحث والعلم لكافة أفراد المجتمع القطري، وللمنطقة وللعالم".
أدار المنتدى السيد ربيع الحداد، مدير قسم الدبلوماسية المتعددة في معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحوث، الذي قال عن المنتدى: "الدبلوماسية الثقافية هي الركيزة الأساسية لتبادل المعرفة، واحتضان العلاقات الثقافية وبناء الجسور بين الأمم والشعوب من أجل تحقيق السلام والوئام بين الدول".
من ضيوف المنتدى رفيعي المستوى سعادة الدكتور فيليكس أولوا، نائب رئيس دولة السلفادور الذي تحدث عن دور حكومته في مكافحة عنف العصابات في البلاد من خلال الدبلوماسية الثقافية وإعادة بناء المكتبة الوطنية للسلفادور، التي تضررت بسبب زلزال ضرب البلاد، بمساعدة من الحكومة الصينية.
شارك في المنتدى أيضًا السيد سيمون أنهولت، مستشار السياسات المستقل والخبير في سمعة الدول و"علاماتها التجارية"، حيث تحدث عن توظيف القوة الناعمة في جميع أنحاء العالم، وقال عن الدبلوماسية الثقافية: "إذا كان لبلد ما صورة إيجابية، تزداد سهولة إبرام صفقات التجارة والاستثمار، لكني لم أجد علاقة ارتباط بين حجم الأموال التي يتم إغداقها على تحسين الصورة الذهنية لبلد ما ونجاح هذا البلد، إذ يجب أن تكتسب السمعة الطيبة من خلال العلاقات الثقافية ومن خلال سلوكياتها كدولة".
ومن جانبها تحدثت سعادة السيدة الدكتورة أمينة محمد، وزير الرياضة والتراث والثقافة في دولة كينيا، عن أحد التطبيقات الرقمية التي طُورت من أجل تسليط الضوء على الثقافة المتنوعة لنحو 44 قومية مختلفة تشكل دولة كينيا. وقالت: "إذا استطعت كدولة أن تصنع لنفسك صورة ذهنية وسمعة عالمية بأنك تهتم بثقافتك وترغب في إبرازها لبقية العالم، فإن ذلك يصبح أداة قوية للغاية تعزز مكانة هذه الدولة في المجتمع الدولي ونظرة شعوب العالم لها".
وألقى سعادة الدكتور مامادو تنغارا، وزير خارجية غامبيا كلمة بعنوان "حاجة أفريقيا للتمكين من خلال المكتبات" قال فيها: "لا مبالغة في التأكيد على مدى أهمية الدبلوماسية الثقافية. ونحن نشيد بالتعاون بين دولتي قطر وغامبيا لبث روحٍ جديدةٍ من الحياة في مكتباتنا وفرصة عظيمة لمساعدتنا في رأب صدع الفجوة الرقمية".
أما سعادة السيد بوكي إدموند، وزير الخارجية السابق والشؤون الدينية والمستشار الحالي لرئيس جمهورية هايتي، فقد تحدث عن العلاقات المتميزة بين هايتي وقطر بمناسبة ذكرى الثورة في هايتي، وقال: "التبادل الثقافي بين البلدان أمر في غاية الأهمية من أجل تعزيز التفاهم بين الشعوب والأمم، فإن لم نفهم ثقافات بعضنا البعض فلن نستطيع أن يفهم أحدنا الآخر".
وفي كلمته، قال سعادة السيد رامانجافيلو ماناماهواكا فاليري فيتزقرالد، الأمين العام لرئاسة جمهورية مدغشقر، عن المكتبة الوطنية في بلاده: "من دون الثقافة، ليس لدينا مواطنون. لقد بذلنا الجهد والعرق على مدار 60 عامًا من الاستقلال، لكننا ما زلنا واحدة من أفقر الدول في العالم. فالروابط الثقافية مع دول مثل قطر ستسهم كثيرًا في تعزيز موقفنا".
وتطرق سعادة السيد علي سعيد فقي، مكتب الرئيس الصومالي، سفير الصومال لدى اتحاد البنلوكس والاتحاد الأوروبي، في كلمته إلى قضية تدمير الآثار الثقافية والمقتنيات التراثية بسبب الصراعات. وقال: "مواجهة هذا الدمار والاتجار غير الشرعي أولوية كبرى، من الضروري تطبيق التدابير الوقائية وتكثيف التعاون الدولي، وعلينا جميعًا أن نتكاتف سويًا ونشارك معًا في كل ذلك".
أما سعادة السيد بيتر ديفيد، وزير خارجية جزيرة غرينادا، فقد ألقى كلمة عن "مشروع المكتبات في غرينادا" قال فيها: "بالنسبة لنا العلاقات الثقافية في غاية الأهمية. وقد دمر أحد الأعاصير مكتبتنا الوطنية، وأصبح الحفاظ على تراثنا الثقافي أولويتنا الكبرى. فبناء وتطوير مكتبة عامة جديدة في غاية الأهمية كمرتكز لتواصلنا الثقافي وفي هذا الإطار يمكننا أن نتعاون مع الدول الأخرى مثل قطر لكي تساعدنا في تعميق علاقاتنا بالعالم".
وألقى السيد هارولد تافاريس، رئيس الموظفين في مكتب رئيس وزراء جمهورية الرأس الأخضر التي تتكون من 10 جزر، كلمة سلط فيها الضوء على الثقافة السائدة في هذاالبلد الجزري: "علينا أن نحكي للعالم الدور المهم لبلدنا الرأس الأخضر، خاصة دورها في تجارة الرقيق. وهنا تقوم مكتبتنا الوطنية بمسؤوليتها وتنهض بدورها وتساعدنا في توعية شعبنا بتاريخنا وجذب شعوب العالم لزيارتنا والتعرف على تاريخنا".
وتحدث سعادة السيد موسز موسى، سفير جزر سليمان لدى الاتحاد الأوروبي، عن المكتبة الوطنية في بلاده قائلًا: "لدينا خطة خمسية لرقمنة مكتبتنا الوطنية، والعمل مع شركاء مثل قطر لتحسين الخدمات لشعبنا".
فيما تحدث الدكتور سيمون جيه روف، المحاضر في مركز الدراسات الدولية والدبلوماسية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن، عن أهمية الدبلوماسية الثقافية: "العلاقات الثقافية تدعم كل علاقاتنا. ندرِّس في كليتنا أكثر من 200 لغة مختلفة، ولكن لدينا أيضًا إرثًا استعماريًا ضخمًا في الجامعة والذي ندركه تمامًا".
كما حضر المنتدى الافتراضي سعادة السيد أومبرتو غابرييل لوبيز لا بيلا، المدير العام للتنوع الثقافي والحقوق والعمليات بوزارة الثقافة في دولة باراغواي.
وعلق سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، في كلمته الختامية للمنتدى قائلًا: "لطالما قيل إن الدبلوماسية الثقافية تجسد شخصية الأمم والشعوب،.والتزام مكتبة قطر الوطنية بالتعاون مع شركائها حول العالم، وسعيها الدؤوب لإثراء هذه الشراكات وتفعيلها، يصب في النهاية ليس في مصلحة قطر والمنطقة فقط بل ومجتمع البحوث حول العالم أجمع".
وأضاف سعادته: "لدينا برامج كبرى مع مؤسسات دولية سنعلن عنها في الوقت المناسب بالتنسيق مع شركائنا. ويُمثل هذا المنتدى مجرد البداية لمؤتمرات لاحقة حول مجالات التعاون بين المكتبات الوطنية حول العالم".
واختتم سعادته بتأكيده على أن هذا المنتدى "يكشف التزام دولة قطر ومكتبة قطر الوطنية بنشر المعرفة في الوقت الذي تتعرض فيه المكتبات حول العالم للإهمال والتخفيض في ميزانياتها، كما يُبرز مدى حرص دولة قطر على بناء جسور التواصل وإشاعة أجواء التفاهم وتبادل المعرفة في جميع أنحاء العالم".
هذا وقد خرج المنتدى بعدد من التوصيات شملت أهمية تسخير التكنولوجيا لتعزيز رقمنة محتوى المكتبات، والعمل على تعزيز التواصل والتفاعل بين المكتبات كجزء من الدبلوماسية الثقافية لنشر العلم والمعرفة والتفاعل بين الثقافات لخدمة الأمن والاستقرار والتفاهم الدولي، وجعل التعاون بين المكتبات الوطنية وسيلة لتعزيز العلاقات الثقافية والتعليمية بين الدول، وتبادل المعلومات بين المكتبات الوطنية لتحقيق التكامل بينها بما يحقق التفاعل البنّاء بين الثقافات، وضرورة قيام المكتبات الوطنية بالدور المطلوب منها لحماية التراث الثقافي واستعادته وتبادل المعلومات في هذا المجال.