طعام شهي في باطن الصحراء: قصة قصيرة

بقبم: بيتسي رايلي، عضو حلقة الكتابة بالمكتبة
ترجمة: أنس أبو سمحان، محرر محتوى باللغة العربية
Desert Truffles

هذه المدونة جزء من سلسلة من المدونات بمناسبة اليوم الوطني لدولة قطر. اقرأ ضمن هذه السلسلة المدونة الأولى هنا والثانية هنا والثالثة هنا.

 

كانت أشعة الشمس تحترقُ في سماء يناير الغائمة في وقت وصول عائلتي إلى كثبان الخرّارة الرملية جنوبيّ قطر. خيّمنا في البقعة نفسها التي اخترناها قبل اثني عشر عامًا في أول رحلة تخييم لنا في الصحراء، ونعاود زيارة هذه المكان سنويًا آملين خلق أي نوع من التقاليد العائلية في حياتنا بوصفنا وافدين في قطر.

يساعدني التخييم الشتوي في استحضار مساحات الهدوء والهرب من الضوضاء والتشتت ويهديني تذكارًا بالنعم التي لا أعرفها في حياة الدوحة الصاخبة. ومن هذه النعم تتبع مجموعة نجوم كوكبة الجبَّار في المساء وسماع صوت تزلج فئران الصحراء على الرمل ومشاهدة خنفساء تتبختر فوق الكثبان وأن تسمع صوت طائر النقشارة صباحًا.

ولكن اليوم، تتراجع ألفتي مع المكان بظهور بعض الأجسام في الأفق. ليست جِمالًا ولا سيارات، وإنما مجموعة من الناس الذين يجولون الصحراء محدودبين ومنحنين إلى الأمام. أرفع يدي وأظلل عينايّ وأحاول رؤية الأشكال المُنقطة في الصحراء، وبدأت أشكالهم تضح لي. في بداية يناير: موسم صيد الفِطْر.

لقد خيمنا دون علمنا بجوار أحد أشهر مواقع نمو نبتة الكمأة الصحراوية في قطر. الكلمة المحلية لهذا الفطر الثمين هي «فقع» (وهي سلعة نادرة جدًا لدرجة أن نصف الكيلو منه يباع في الأسواق والأكشاك على جانب الطريق مقابل 400 ريال). لهذا الفطر ملمس ناعم ومذاق لذيذ، وتعلمت فيما بعد أن هذا النبات الجميل ينمو تحت السطح في الأراضي المنخفضة حيث تتجمع أمطار الوسمي وحيث تُشطأ أوراق الأشجار. تنتج جذور الكمأ الآن ثمارًا بعد أن بقيت خاملة في حرارة الصيف البالغة 45 درجة. يسمي السكان المحليون الفطر «قطع من رعد الصحراء»، حيث تتمكن الأوراق من إحداث تشققات في سطح الأرض فقط لبضعة أسابيع قصيرة من شهر يناير معلنة وجود ثمرة الكمأة تحتها.

سحرتني فكرة البحث عن الكمأ الصحراوي، حتى مع بداية وصولنا إلى المخيم وإخراجنا للطعام الجاهز الذي أحضرناه معنا. شويت قطعة من النقانق ولكني لم أتوقف عن التفكير في الفطر المختبئ تحت سطح الأرض. تنتجه الأرض.. للأرض... طعام شهي في باطن الصحراء. أصابتني عدوى البحث عن الفطر في النهاية. فتحت موقع اليوتيوب للتعلم عن صيده والصعوبات في العثور عليه.

وعلى الرغم من كل الفيديوهات التعليمية التي شاهدتها، لم أتمكن من العثور على أي قطعة قابلة للأكل. مشَّطت سطح الأرض في الصحراء بملعقة وشعرت أن جهودي عقيمة. رفضت أن تظهر الصحراء كنزها الدفين لي. 

خلال اليوم التالي، كنا نقود سيارتنا بالقرب من أرص معروفة لصيد الكمأ، ومرة أخرى، لم أتمكن من محاربة رغبتي، وقلت لعائلتي: «لننضم إليهم!». تسايرني عائلتي. أوقفنا السيارة وانضممنا إلى عائلة من النساء والأطفال واحدودبنا وأخذنا نبحث معهم. 

استفسرنا منهم: «كيف البحث؟»، يجيب الأطفال بلغة إنجليزية ممتازة «عثرت جدتنا البارحة على ثلاثين قطعة من الفطر، أما اليوم فلم نعثر على الكثير». عرَّفنا الأطفال على أمهم وجدتهم وبعض عمّاتهم، بدوا جميعًا ودودين ولكنهم لم يكونوا مهتمين بالحديث. ظهرت فساتين النساء الملونة والمطرزة بالخيوط الذهبية من تحت عباءاتهن عند انحنائهن على الأرض وعند استخدامهن للأداة الوحيدة في صيد الفطر: مِفك براغٍ برأس مسطح. أخذن يشرحن لي بكثير من التفصيل عن آلية البحث عن النباتات من بين شقوق الأرض، وأخبرنني أن الفطر يبدو مثل رغيف خبزٍ طازج. «كمأة، كمأة» كررت إحدى النساء على مسامعي هذا الوصف للفطر والذي يكون على شكل قمع.

بعد الشرح السريع، انضممت إلى حفلة الصيد، وأخذت أقلب الأرض بعيني وبمعدٍة مشدودة وقلب متلهف. أفحص بقع النباتات تحت قدميّ وأرى الفطر: رأس نبتة وبعض الشقوق في الأرض. أنادي على البقية بحماس متقد، وتأتي دليلتي الخبيرة وتقتلع بيدها النبتة من التربة، ولكنها تهز رأسها نافية وترميها وتقول لي «لازم كمأة» لأن الفطر الذي عثرت عليه غير صالح للأكل، فهو دائري. اتضح لي أن العملية أصعب مما تخيلت. 

بعد عشرة دقائق، بعثت إحدى العمات، والتي كانت ترتدي برقعًا خليجيًا، بإشارة، وبدأ الأطفال بالتجمع حولها. وقفت على منطقة مُعلمة بإشارة X. أعطت مفكها لابني ذي العشر سنوات وأرشدته لكيفية حفر التربة حول النبتة واستخدام المفك لرفع الكمأة من تحت الأرض بهدوء. تشققت التربة، وظهر فطرٌ على شكل قمع وبحجم حبة الفراولة. احتفلت أنا وأبنائي وصرخنا، «عثرنا على واحدة» كما لو أننا قد اكتشفنا معًا كنزًا دفينًا.

كان الأسبوع الذي قضيته وعائلي في الصحراء مشغولًا بالمغامرات البحثية. وفي يوم تخييمي نفسه بالخرارة، شُوهد الأمير الوالد، صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني يصيد الفطر في الخور، وهي منطقة ثانية معروفة بوجود نبتة الكمأة (أو الفقع( فيها). انتشرت صُورة على مواقع التواصل الاجتماعي للأمير الوالد وهو يجلس بعينين مغلقتين ويتشرب رائحة قطعة من الكمأ الصحراوي بحجم حبة قرنبيط. كان الأمير يلف نفسه ببطانية أو قطعة من الصوف، وأتخيله يجلس مُدفئًا نفسه بجوار النار مع أصدقائه القدامى ويستمتع بالمخيم الشتوي: صوت فرقعة الفحم، رائحة احتراق الخشب، وفي الخلفية، وعاء من الحليب والزنجبيل يغلي في الموقد.

في هذا الرحلة تلتقي البساطة مع الدهشة. رُبما تجذبنا المتعة الحنينية المصحوبة بحب الاكتشاف... تجذبنا جميعًا، سواء كنا ملوكًا أو أناس عاديين..

ها أنا أعود إلى الدوحة وأحمل معي 3 أقماع من الكمأ الصحراوي وبعض الهدايا التذكارية من دليلاتي الماهرات. في ذلك المساء، عندما قلبت الفطر مع الثوم والبصل وأرز بسمتي، توصلت إلى اكتشاف جديد.

هدايا الصحراء ليست محصورة بالمشاهد الجميلة والهادئة والحياة البرية الخجولة، وإنما تهدينا الصحراء بعض الأكلات والمذاقات الشهية أيضًا.  

إضافة تعليق جديد