نعيش هذه الأيام خير أيام الدنيا، ألا وهي عشرة ذي الحجة التي أقسم بها الله عز وجل في القرآن الكريم في قوله تعالى (وليالٍ عشر) [الفجر: 2]. في هذه الأيام المباركة يستعد الحجاج الذين جاءوا إلى مكة المكرمة من أصقاع الدنيا لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وعبادة فرضت على المسلمين مرة واحدة في حياتهم لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، ألا وهي عبادة الحج.
لم تختلف مناسك الحج في الإسلام عنها في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، لكن العرب في زمن الجاهلية أدخلوا عليها ما ليس منها، فكان بعضهم يطوف حول البيت عراة، وكانوا يذبحون الذبائح ويلطخون جدران الكعبة بها! ولما جاء الإسلام عادت مناسك الحج إلى ما كانت عليه عندما أمره الله إبراهيم عليه السلام بأن يدعو الناس جميعًا للحج: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]
وما زالت شعائر الحج ومناسكه في يومنا هذا كما أداها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل 1400 سنة، فهي ثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية. وبالرغم من كون مناسك الحج ثابتة لم يطرأ عليها أي تحريف أو تغيير منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فإنها ظلت بالنسبة للعالم الغربي ولأكثر من 700 عام أمرًا غامضًا لا يعرفون عنه سوى اليسير ومعظم ما يعرفونه أقرب للظن منه إلى اليقين، فلم يكن هناك شاهد عيان من أنفسهم يذهب إلى مكة ليشاهد المناسك بعينيه ذلك لأن مكة المكرمة بنص القرآن الكريم محرم دخولها على غير المسلمين.
لكن ذلك تغير في القرن الخامس عشر الميلادي عندما أصبح الأرستقراطي الإيطالي لودوفيكو دي فارتيما أول رحالة أوروبي غير مسلم يدخل مكة في عام 1503 م بعد أن تظاهر باعتناق الإسلام وسمى نفسه "الحاج يونس". كتب فارتيما وصفًا كاملًا ودقيقًا ومعاصرًا للمدينة المقدسة، ليصبح فارتيما بذلك شاهد العيان الذي يقدم لأوروبا رواية موثوقة عن الحج من داخل مكة المكرمة وليس حكايات هي أقرب للأساطير منها للحقيقة. واليوم أصبحت رواية فارتيما نموذجًا مبكرًا لرؤية الغرب للإسلام وشعائره ومرجعًا مهمًا للباحثين الذين يدرسون تاريخ مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرن السادس عشر الميلادي.
ومن دواعي سرورنا أن مكتبتنا التراثية تمتلك النسخة التي صدرت في عام 1510 م لرحلات فارتيما إلى الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا – بعنوان Itinerario de Ludovico de Varthema Bolognese (أسفار لودوفيكو دي فارتيما البولوني)، وهي متاحة لاطلاع الباحثين.
يصف فارتيما في كتابه أكوام التراب التي استخدمت لتحصين المدينة المنورة ضد الهجمات، وكذلك جنان قباء وآبار المياه في المدينة. وقال إنه استخدم دليلًا ليزور قبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ثم انتقل فارتيما والقافلة التي يسافر معها إلى مكة المكرمة، ليصلها بعد سفر مدته 10 أيام. ووصف الصراع السياسي والعسكري الدائر حينها للهيمنة على المدينة، ولكنه بدأ بوصفه مكة المكرمة نفسها بالحديث عن جبل عرفات. وصف فارتيما الكعبة والطواف وبئر زمزم، وأشار إلى كثرة أعداد اليمام التي تعيش في المدينة، وعلل ذلك بأن ذلك اقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في إبداء الرحمة نحو الطيور. لمعرفة تفاصيل كتاب فارتيما المتوفر في مكتبتنا التراثية، اضغط هنا.
كما تحتوي المكتبة التراثية على طبعة عام 1717 م من كتاب A True and Faithful Account of the Religion & Manners of the Mohametans (وصف صادق وأمين لدين وأخلاق المحمديين). ويعني بذلك المسلمين. مؤلف الكتاب هو الإنجليزي جوزيف بيتس الذي سقط أسيرًا في يد بحار جزائري أرغمه على اعتناق الإسلام وتغيير اسمه إلى "يوسف"، وزار مكة مع سيده في عام 1685 الذي أعتقه بعد ذلك.
في كتابه وصف بيتس مناسك الحج المتمثلة في الوصول إلى مكة المكرمة ثم الطواف الأول، والاغتسال في بئر زمزم ثم إتمام أشواط السعي السبعة بين الصفا والمروة، ووصف بيتس مكان السعي بأنه في الطريق المقابل لصحن الحرم. لاستعارة النسخة المطبوعة من الكتاب، يُرجى الضغط هنا لمعرفة مكانه ورقم تصنيقه.
أدى جوزيف المناسك مع الحجاج، وذهب إلى عرفات، ويبدو أن المشهد هناك أسره، إذ حمله على أن يقول:
”لقد كان مشهداً يأسر القلب حقًا؛ أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرد من ملذات الدنيا، برؤوسهم الحاسرة، وقد بللت الدموع وجناتهم، وأن تسمع تضرعاتهم وبكائهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة“.
انقضى زهاء 500 سنة منذ زار فارتيما الكعبة، وقرابة .340 سنة منذ حج جوزيف بيتس بصحبة سيده، لكن المشاهد والمناسك التي شاهداها وكتبا عنها ستكون مألوفة للغاية للحجاج الذين يستعدون للتوجه إلى بيت الله الحرام في الأيام القليلة المقبلة.
في ذلك الوقت كل عام، لا يملك المرء سوى أن يشعر بالغبطة نحو كل من كتب له أداء فريضة الحج، وبالدهشة من دور الحج على مر العصور في توحيد الشعوب من مختلف الجنسيات والثقافات عبر الإيمان بالله وهم يقفون جميعًا في زي واحد في رمزية تجسد المساواة بأبهى صورها.
المكتبة التراثية مفتوحة لكافة الجمهور للزيارة والاطلاع على معرضها الدائم. وبإمكان الباحثين المهتمين بموضوعات أو مخطوطات معينة طلب الاطلاع على المقتنيات ذات الصلة تحت إشراف أحد موظفي المكتبة التراثية. يُرجى الضغط هنا للتواصل معنا.
إضافة تعليق جديد